مأزق غزة الوجودي- نتنياهو، بايدن، وحماس على حافة الهاوية.

المؤلف: محمود عبد الهادي11.09.2025
مأزق غزة الوجودي- نتنياهو، بايدن، وحماس على حافة الهاوية.

وصلت الحرب الصهيو-أمريكية الشاملة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة إلى منعطف بالغ الخطورة، وأزمة حقيقية باتت تمثل تهديدًا وجوديًا للأطراف الفاعلة الرئيسية في هذا الصراع الدامي. هذه الأطراف تتمثل في: رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي تدعمه بقوة أحزاب الليكود الدينية المتطرفة ويمثلها، وإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي يساندها الحزب الديمقراطي، وحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي تقف خلفها كتائب المقاومة المسلحة والشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة.

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل ستتمكن هذه الأطراف الثلاثة من تجاوز هذه المرحلة الحرجة والخروج من هذا المأزق الخطير الذي يهدد كيانها واستقرارها؟ وما هي السبل الكفيلة بتحقيق ذلك؟

إن الخيار الوحيد المتاح أمام نتنياهو هو الحفاظ على تماسك ائتلافه الحاكم بأي ثمن، والاستمرار في هذه الحرب الطاحنة حتى تحقيق نصر كامل على حركة "حماس"، وتحقيق أهدافه الخفية التي ستجعله في نظر نفسه زعيما صهيونيا تاريخيا لا يشق له غبار.

نتنياهو وبايدن على حافة الانتحار

بعد مرور ما يقارب ستة أشهر على الصمود البطولي لكتائب المقاومة الفلسطينية، وإبدائها ضروبا من البسالة في ميدان المعركة، وتمكنها من تحطيم صورة الجيش الذي لا يقهر، وعلى الصمود الأسطوري الذي أظهره الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والتفافه حول المقاومة رغم التضحيات الجسام التي يتكبدها في شتى مناحي الحياة، وعلى الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية والفوقية لقطاع غزة، حيث تدمر أكثر من 75٪ منها تحت وطأة آلة الحرب الصهيو-أمريكية، وبعد كل هذه الأحداث الجسام يقف كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، والرئيس الأميركي بايدن على شفا جرف هار من الانهيار السياسي. فالتحالف الذي جمعهما للقيام بهذه الحرب الشعواء ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، سيدفع بهما إلى قاع الجحيم، ليختتم حياتهما السياسية بأبشع صورة ممكنة، حتى وإن تمكنا من تحقيق الغايات المرجوة من هذه الحرب.

نتنياهو والأحلام الضالّة

يتعاظم التهديد الوجودي الذي يواجهه نتنياهو يومًا بعد يوم؛ فهو لم يتمكن حتى الآن من تحقيق أهدافه الثلاثة التي أعلن عنها، أما أهدافه الأخرى غير المعلنة التي تتمثل في إخلاء قطاع غزة من سكانه وضمها إلى الكيان الإسرائيلي، فقد تبخرت هي الأخرى وأصبحت ضربًا من الخيال. أما ائتلافه الحاكم المتهالك، فهو على وشك التصدع والانهيار تحت وطأة ضغوط متزايدة:

  • أولا: ضغط الشارع الإسرائيلي الغاضب، الذي قد يتحول في الأسابيع القادمة إلى عصيان مدني شامل يجبر رئيس الوزراء على حل الحكومة، والدعوة إلى انتخابات مبكرة.
  • ثانيا: قانون إعفاء أبناء الجماعات الدينية المتطرفة من الخدمة العسكرية الإلزامية، الذي تصر المعارضة بشدة على إلغائه، بينما تهدد الأحزاب الدينية بالانسحاب من الحكومة إذا ما استجاب نتنياهو لمطالب المعارضة. بل إن القيادات الدينية اليهودية في الكيان الصهيوني أعلنت عن عزمها الهجرة الجماعية من الدولة إذا ما أقدم نتنياهو على هذه الخطوة.

هذا الوضع المتأزم يضع نتنياهو في موقف لا يحسد عليه، ويجعله مضطرًا للاستجابة لمطالب الأحزاب الدينية المتشددة؛ لأن خروجها من الائتلاف الحاكم يعني انهيار الحكومة وتوجه البلاد نحو انتخابات مبكرة، وهو على يقين تام بأن خسارته في هذه الانتخابات ستكون مدوية على الأصعدة كافة، فهي تمثل خسارة سياسية تتبخر معها أحلامه السياسية التاريخية، وخسارة شخصية فادحة، حيث ستتم ملاحقته قضائيًا في العديد من القضايا الكبرى، وعلى رأسها مسؤوليته الكاملة عما حدث في هجوم "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

في المقابل، فإن هذا الوضع سيؤدي حتمًا إلى تفاقم الاضطرابات والتوترات في الشارع الإسرائيلي، وسيثير المزيد من السخط والاستياء في أوساط الجيش، الذي يصر قادته بشدة على عدم استثناء المتدينين من قانون الخدمة العسكرية.

من هنا يتضح أن نتنياهو لا يملك رفاهية الاختيار، وليس أمامه من سبيل سوى الحفاظ على تماسك ائتلافه الحاكم بأي ثمن، والاستمرار في هذه الحرب حتى تحقيق نصر ساحق على حركة "حماس"، وتحقيق أهدافه الخفية التي ستجعله في نظر أنصاره زعيما صهيونيا تاريخيا. وهذا يعني بكل وضوح أنه لن يوافق على مطالب حماس التفاوضية، وعلى رأسها الوقف الدائم لإطلاق النار، والانسحاب الكامل والشامل من قطاع غزة.

بايدن والبحث عن الانتصار

أما الرئيس بايدن، فهو يواجه بدوره تهديدًا وجوديًا حقيقيًا وعاصفًا، يهدد مستقبله السياسي برمته، ويطيح بأحلامه في الفوز بولاية رئاسية ثانية. ولن يتوقف تأثير هذا التهديد عند شخصه، بل سيمتد ليترك آثارًا بالغة على الحزب الديمقراطي العريق، الذي بات يواجه أزمة فكرية وأخلاقية حادة، سيحتاج إلى فترة طويلة من الجهد والعناء كي يتمكن من معالجة آثارها وتجاوز تداعياتها.

الرئيس بايدن الذي تربطه بالكيان الصهيوني علاقات تاريخية فريدة واستثنائية لم تتوفر لغيره من الرؤساء السابقين؛ باتت حاجته لتحقيق انتصار في الحرب على "حماس" تفوق حاجة نتنياهو نفسه، الذي تنحصر طموحاته في إطار الدولة الصهيونية. أما بايدن فهو بأمسّ الحاجة لهذا الانتصار لتعزيز مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها في شتى أنحاء العالم، ولإثبات قدرتها على تحقيق أهدافهم، وإرسال رسائل واضحة وقوية إلى كل من روسيا والصين وإيران على وجه الخصوص، وإلى شركائها في المنطقة العربية، تفهمُها كل دولة منها على حسب القضايا العالقة بينها وبين الولايات المتحدة.

لهذا السبب نجد الرئيس بايدن، على الرغم من المطالبات الدولية الرسمية والشعبية المتزايدة، يرفض بشكل قاطع الوقف الدائم لإطلاق النار، ويصر بإلحاح على القضاء التام على حركة "حماس"، على أمل أن يتمكن بهذه الطريقة من تحقيق الانتصار الذي يحسّن من وضعه الانتخابي المتدهور، بعدما أوشكت حرب الإبادة الجماعية المروعة في غزة أن تطيح بكافة أحلامه وطموحاته في الفوز بدورة رئاسية ثانية.

وسعياً وراء تحقيق الانتصار المنشود، وتجنبًا للهزيمة الوجودية المتربصة؛ سيستمر موقف بايدن على ما هو عليه، وسيتبنى أهداف نتنياهو المعلنة وغير المعلنة دون تردد؛ وسيستمر في الضغط على مجلس النواب الأميركي لحمله على الموافقة على حزمة الدعم الإضافي الضخمة لأوكرانيا والكيان الصهيوني، التي سبق أن حظيت بموافقة مجلس الشيوخ، بينما ستواصل إدارته بذل جهودها الحثيثة لمساعدة نتنياهو على تحقيق النصر.

كما ستستمر الأدوار الدبلوماسية التي تقوم بها إدارته؛ بهدف كسب المزيد من الوقت الثمين لصالح تحقيق أهداف الحرب، مع التظاهر في الوقت نفسه بمظهر الدولة التي تعترض على استهداف المدنيين الأبرياء وتجويعهم، والمتفهمة لمطالب الفلسطينيين المشروعة في إقامة دولتهم المستقلة، مع إعطاء الكيان الصهيوني الغطاء الكامل والحرية المطلقة في القيام بكل ما يراه مناسبًا للحفاظ على أمنه؛ بحجة أنه دولة مستقلة ذات سيادة لا تستطيع الولايات المتحدة أن تفرض إرادتها عليها.

تقف حركة "حماس" في هذه المرحلة الحرجة أمام خيارات وجودية في غاية الصعوبة والتعقيد، فإما القبول بهدنة مؤقتة يستأنف الاحتلال بعدها حربه الشرسة ضدها بعد انقضائها، وإما الاستسلام الكامل والانسحاب من قطاع غزة، وإما استمرار المقاومة الباسلة وتحمّل التكاليف الباهظة الناجمة عنها، فأي هذه الخيارات الصعبة يتعين على حماس أن تختار؟

حماس والخيارات الوجودية الصعبة

منذ اللحظة الأولى لإعلان الحرب على حماس، واندلاع حرب الإبادة الجماعية الصهيو-أمريكية ضد الشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة، أدركت حركة حماس تمام الإدراك حجم التحديات الوجودية الهائلة التي تواجهها في هذه الحرب، بأبعادها الفلسطينية والإقليمية والدولية كافة. إلا أن نجاحها اللافت في الصمود والثبات والمقاومة طوال ما يقارب ستة أشهر، وتمكنها من إيقاع خسائر فادحة وكبيرة في صفوف الجيش الصهيوني ومعداته وآلياته العسكرية، زاد من إصرار نتنياهو على ملاحقة "حماس" والقضاء عليها بشكل كامل، ورفض الوقف الدائم لإطلاق النار والانسحاب من قطاع غزة، وزاد في المقابل من حدة العمليات العسكرية الوحشية ضد المدنيين العزل. وقد أدى هذا الموقف المتصلب إلى فشل المحادثات الرامية إلى وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية، ليضع "حماس" في مواجهة تحديات بالغة الصعوبة والتعقيد، على رأسها:

  • الرفض القاطع من قبل الكيان الصهيوني للإيقاف الدائم لإطلاق النار والانسحاب الكامل من قطاع غزة.
  • استمرار العمليات العسكرية العنيفة والمنظمة ضد المدنيين الأبرياء، وبشكل خاص ضد المستشفيات والمراكز الطبية، وأماكن إيواء النازحين، ومقرات توزيع المساعدات الإنسانية الضرورية.
  • تحول الجيش الصهيوني إلى استهداف ممنهج ومنظم للكوادر التي يشتبه في أن لها صلة بحركة حماس.
  • استمرار تدمير المباني السكنية فوق رؤوس المدنيين الآمنين، وارتفاع مريع في أعداد القتلى والجرحى والمفقودين. استمرار المعاناة القاسية التي يعانيها الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، من نقص حاد في المأوى والدواء والطعام.
  • استمرار العمل الدؤوب لتنفيذ المخططات الدولية والإقليمية (الغامضة) تحت شعار إيصال المساعدات الإنسانية وإطعام المدنيين. استمرار المحاولات المستميتة للالتفاف الخبيث على التأييد الشعبي الجارف لحركة "حماس".
  • استمرار العجز العربي والإسلامي والإقليمي والدولي المخزي عن اتخاذ الإجراءات الحاسمة والضرورية التي تلزم الكيان الصهيوني بالإيقاف الفوري والدائم للحرب والانسحاب الكامل من غزة.

وأمام هذه التحديات الصعبة والعصيبة، التي تقف "حماس" عاجزة عن التغلب عليها بمفردها، تجد "حماس" نفسها أمام واحد من ثلاثة خيارات محددة لا رابع لها:

الموافقة مضطرة على هدنة مؤقتة يستأنف الكيان الصهيوني بعدها حربه الشرسة ضد حماس والمدنيين الأبرياء بصورة أشرس وأكثر دموية. الاستسلام الذليل والانسحاب الكامل من قطاع غزة ضمن ترتيبات إقليمية ودولية مهينة. مواصلة المقاومة الباسلة حتى آخر جندي وآخر رصاصة، وتحمل بصبر وشجاعة النتائج المترتبة على ذلك على المدنيين.

وكل خيار من هذه الخيارات المطروحة، يشكل في حد ذاته تهديدًا وجوديًا حقيقيًا لحركة حماس والمقاومة المسلحة في قطاع غزة، فأي هذه الخيارات هو الأنسب لحركة حماس لكي تتبناه وتتمسك به في المرحلة القادمة؟

هذا ما سنتناوله بالتفصيل والتحليل في المقال القادم بإذن الله.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة